كتب – رامز يوسف:
غالبًا ما يُوصف الانفجار العظيم بأنه الولادة الانفجارية للكون – لحظة فريدة انبثق فيها المكان والزمان والمادة إلى الوجود. ولكن ماذا لو لم تكن هذه البداية على الإطلاق؟ ماذا لو انبثق كوننا من شيء آخر – شيء مألوف وجذري في الوقت نفسه؟
في ورقة بحثية جديدة، نُشرت في مجلة “Physical Review D”، اقترح فريق الدراسة، بديلاً مثيرًا للاهتمام. تشير الحسابات إلى أن الانفجار العظيم لم يكن بداية كل شيء، بل كان نتيجة انضغاط أو انهيار جاذبي شكّل ثقبًا أسود هائلًا – أعقبه ارتداد داخله.
هذه الفكرة، التي سماها الباحثون كون الثقب الأسود، تقدم رؤية مختلفة جذريًا عن الأصول الكونية، إلا أنها تستند بالكامل إلى الفيزياء والملاحظات المعروفة.
حقق النموذج الكوني القياسي الحالي، القائم على الانفجار العظيم والتضخم الكوني (فكرة أن الكون المبكر انفجر بسرعة في الحجم)، نجاحًا ملحوظًا في تفسير بنية الكون وتطوره. لكن هذا له ثمن: فهو يترك بعضًا من أكثر الأسئلة جوهرية دون إجابة.
أولًا، يبدأ نموذج الانفجار العظيم بنقطة تفرد – وهي نقطة ذات كثافة لا نهائية تنهار عندها قوانين الفيزياء. هذه ليست مجرد خلل تقني؛ إنها مشكلة نظرية عميقة تشير إلى أننا لا نفهم البداية حقًا على الإطلاق.
لتفسير بنية الكون واسعة النطاق، أدخل الفيزيائيون مرحلة قصيرة من التمدد السريع في الكون المبكر تُسمى التضخم الكوني، مدعومة بحقل مجهول ذي خصائص غريبة. لاحقًا، لتفسير التمدد المتسارع الملحوظ اليوم، أضافوا عنصرًا “غامضًا” آخر: الطاقة المظلمة.
باختصار، يعمل النموذج الكوني القياسي جيدًا – ولكن فقط من خلال إدخال مكونات جديدة لم نرصدها بشكل مباشر من قبل. في غضون ذلك، تظل الأسئلة الأساسية مفتوحة: من أين جاء كل شيء؟ لماذا بدأ الأمر هكذا؟ ولماذا يبدو الكون مسطحًا وناعمًا وكبيرًا إلى هذا الحد؟
نموذج جديد لبداية الكون
يتناول نموذجنا الجديد هذه الأسئلة من زاوية مختلفة، وذلك بالنظر إلى الداخل بدلًا من الخارج. فبدلًا من البدء بكون متمدد ومحاولة تتبع بدايته، ندرس ما يحدث عندما تنهار كتلة كثيفة للغاية من المادة بفعل الجاذبية.
هذه عملية مألوفة: تنهار النجوم إلى ثقوب سوداء، وهي من أكثر الأجسام فهمًا في الفيزياء. لكن ما يحدث داخل الثقب الأسود، وراء أفق الحدث الذي لا يمكن لأي شيء الهروب منه، لا يزال لغزًا.
في عام ١٩٦٥، أثبت الفيزيائي البريطاني روجر بنروز أنه في ظل ظروف عامة جدًا، لا بد أن يؤدي انهيار الجاذبية إلى تفرد. هذه النتيجة، التي طوّرها الفيزيائي البريطاني الراحل ستيفن هوكينج وآخرون، تدعم فكرة أن التفردات – مثل تلك التي حدثت عند الانفجار العظيم – لا مفر منها.
ساهمت هذه الفكرة في فوز بنروز بجائزة نوبل في الفيزياء لعام 2020، وألهمت كتاب هوكينج الأكثر مبيعًا عالميًا “تاريخ موجز للزمن: من الانفجار العظيم إلى الثقوب السوداء”. ولكن هناك تحذير. تعتمد “نظريات التفرد” هذه على “الفيزياء الكلاسيكية” التي تصف الأجسام العيانية العادية. إذا أضفنا تأثيرات ميكانيكا الكم، التي تحكم الكون الصغير جدًا من الذرات والجسيمات، كما هو الحال عند الكثافات القصوى، فقد تتغير القصة.
في الدراسة الجديدة، يوضح الباحثون أن انهيار الجاذبية لا ينتهي بالضرورة بتفرد. ووجدوا حلًا تحليليًا دقيقًا – نتيجة رياضية بدون تقريبات. وتُظهر حساباتهم أنه مع اقترابهم من التفرد المحتمل، يتغير حجم الكون كدالة (زائدية) للزمن الكوني.
يصف هذا الحل الرياضي البسيط كيف يمكن لسحابة من المادة المنهارة أن تصل إلى حالة كثافة عالية ثم ترتد، عائدةً إلى مرحلة توسع جديدة.
لكن كيف تمنع نظريات بنروز مثل هذه النتائج؟ يعود الأمر كله إلى قاعدة تُسمى مبدأ الاستبعاد الكمي، والتي تنص على أنه لا يمكن لجسيمين متطابقين، يُعرفان بالفرميونات، أن يشغلا نفس الحالة الكمومية (مثل الزخم الزاوي، أو الدوران المغزلي).
وأظهروا أن هذه القاعدة تمنع الجسيمات في المادة المنهارة من الانضغاط إلى أجل غير مسمى. ونتيجة لذلك، يتوقف الانهيار وينعكس. الارتداد ليس ممكنًا فحسب، بل هو حتمي في ظل الظروف المناسبة.
الأهم من ذلك، أن هذا الارتداد يحدث بالكامل ضمن إطار النسبية العامة، التي تنطبق على المقاييس الكبيرة كالنجوم والمجرات، مقترنًا بالمبادئ الأساسية لميكانيكا الكم – لا حاجة لحقول غريبة أو أبعاد إضافية أو فيزياء افتراضية.
ما يظهر على الجانب الآخر من الارتداد هو كون يشبه كوننا إلى حد كبير. والأكثر إثارة للدهشة، أن الارتداد يُنتج بشكل طبيعي مرحلتين منفصلتين من التمدد المتسارع – التضخم والطاقة المظلمة – مدفوعتين ليس بحقول افتراضية بل بفيزياء الارتداد نفسها.
تنبؤات قابلة للاختبار
من نقاط قوة هذا النموذج أنه يُقدم تنبؤات قابلة للاختبار. فهو يتنبأ بمقدار صغير، ولكنه ليس صفرًا، من الانحناء المكاني الإيجابي – ما يعني أن الكون ليس مسطحًا تمامًا، بل منحنيًا قليلاً، مثل سطح الأرض.
هذا ببساطة من بقايا الكثافة الزائدة الصغيرة الأولية التي أدت إلى الانهيار. إذا أكدت عمليات الرصد المستقبلية، مثل مهمة إقليدس الجارية، وجود انحناء موجب صغير، فسيكون ذلك تلميحًا قويًا إلى أن كوننا قد نشأ بالفعل من هذا الارتداد. كما أنه يقدم تنبؤات حول معدل تمدد الكون الحالي، وهو أمر تم التحقق منه بالفعل.
يتجاوز هذا النموذج مجرد حل المشكلات التقنية في علم الكونيات القياسي. فقد يُلقي أيضًا ضوءًا جديدًا على ألغاز عميقة أخرى في فهمنا للكون المبكر – مثل أصل الثقوب السوداء الهائلة، وطبيعة المادة المظلمة، والتكوين والتطور الهرمي للمجرات.
يُقدم كون الثقوب السوداء أيضًا منظورًا جديدًا لمكانتنا في الكون. في هذا الإطار، يقع كوننا المرئي بأكمله داخل ثقب أسود تشكل في كون “أصلي” أكبر.
لسنا مميزين، كما لم تكن الأرض مميزة في النظرة العالمية المركزية للأرض التي أدت إلى وضع جاليليو (عالم الفلك الذي اقترح دوران الأرض حول الشمس في القرنين السادس عشر والسابع عشر) تحت الإقامة الجبرية.
نحن لا نشهد ولادة كل شيء من العدم، بل استمرارًا لدورة كونية – دورةٌ تُشكّلها الجاذبية وميكانيكا الكمّ والترابطات العميقة بينهما.
المصدر: The Conversation
اقرأ أيضا: