كتب – باسل يوسف:
عندما تنظر في المرآة، فإن الانعكاس هو أنت أساسًا، ولكن مع عكس مثالي لجميع سماتك. وهذا يوضح ظاهرة نراها أيضًا في العالم الصغير للجزيئات.
توجد بعض الجزيئات كصور مرآوية لأنفسها، تُعرف باسم “التماثلات الضوئية”. يُعرف هذا المفهوم باسم “التماثل اليدوي”. إنه مهم لأن الصور المرآوية لنفس الجزيئات يمكن أن يكون لها تأثيرات ووظائف مختلفة تمامًا في علم الأحياء.
حذرت مجموعة من 40 عالمًا مشهورًا في مجلة ساينس من أنه في غضون العقد المقبل، قد يكون من الممكن إنشاء أشكال حياة مرآوية كاملة مكونة من هذه التماثلات الضوئية – على وجه التحديد، الحياة الميكروبية مثل البكتيريا. ويجادلون بأن هذا يشكل مخاطر حقيقية.
يقترحون أن “بكتيريا المرآة” يمكن أن تتجنب أجهزة المناعة لدى الناس، ما يتسبب في التهابات مميتة. إن مثل هذه العدوى قد تؤدي أيضاً إلى نزوح نسبة كبيرة من أنواع النباتات والحيوانات، وبالتالي تعطيل البيئة تماماً.
إن جزيئات الصورة المرآتية متطابقة بنيوياً، تماماً كما أن يديك اليسرى واليمنى متطابقتان بنيوياً ويمكنهما أداء نفس الوظائف تماماً. كما أن هذه الجزيئات لها نفس الخصائص الكيميائية تماماً ــ ولكن لأسباب غير معروفة، تفضل الطبيعة بناء الحياة من نسخة واحدة فقط من هذه الجزيئات.
على سبيل المثال، الأحماض الأمينية ــ اللبنات الأساسية للبروتينات ــ يسارية، في حين أن السكريات يمينية. وجزيء الحمض النووي عبارة عن خيط لولبي يمين.
هذه الكيرالية الانتقائية تحدد كيفية تفاعل الجزيئات في الأنظمة الحية. وهي تؤثر على كيفية عمل الأدوية والإنزيمات (المحفزات البيولوجية التي تسرع التفاعلات) في أجسامنا، فضلاً عن كيفية إدراكنا للنكهات والروائح. على سبيل المثال، يمكن لجزيء الكارفون أن يشم رائحة النعناع أو بذور الكراوية، وهذا يتوقف على النسخة “المرآتية” من الجزيء الذي تحصل منه على هذه الرائحة.
الجزيئات المرآتية الأخرى لها آثار أعمق كثيراً. مثلا، دواء الثاليدوميد موجود في شكلين. أحد هذه العلاجات هو علاج قوي لغثيان الصباح؛ أما النسخة المرآوية فتتسبب في عيوب خلقية مدمرة.
وهذا يثير التساؤل: ماذا لو استطعنا صنع جزيئات بيولوجية موجودة على الجانب الآخر من المرآة؟ إن الدافع وراء هذا البحث هو الفضول جزئياً، ولكنه أيضاً له تطبيقات عملية.
العلاجات الطبية تشتق بشكل متزايد من جزيئات بيولوجية مثل الببتيدات (شظايا صغيرة من البروتينات)، ويمكن استخدامها لعلاج السرطان. ولكن على الرغم من فعاليتها، فإن البروتينات والببتيدات الطبيعية تواجه قيداً كبيراً: فهي تتحلل بسرعة في الجسم.
وهذا لأن الإنزيمات في أجسامنا، والتي تطورت لتفكيك الجزيئات البيولوجية لإعادة التدوير، فعالة للغاية في استهداف الببتيدات الطبيعية. لذا، فإن علاجات السرطان هذه قد تتطلب جرعات متكررة لضمان نجاحها.
ومع ذلك، فإن الببتيدات المماثلة المصنوعة من الأحماض الأمينية المرآوية ربما لا تتعرف عليها أنظمة التحلل هذه، ومع ذلك يمكن تصميمها لاستهداف السرطانات. وبناء هذه الجزيئات البيولوجية المرآوية أمر ممكن بالفعل: صنعنا انعكاسات للحمض النووي، و”إنزيمات مرآوية” وظيفية بالكامل، وأكثر من ذلك.
المخاطر المترتبة على وجود كائنات مرآوية
إن الفوائد المحتملة التي قد تترتب على وجود جزيئات مرآوية مغرية. والخطوة التالية الواضحة هي خلق كائنات مرآوية كاملة، مصنوعة بالكامل من جزيئات تمثل انعكاسات لنسخ طبيعية.
وهناك بالفعل مجموعات بحثية تعمل على بناء البكتيريا “من الصفر”. وبعبارة أخرى، فإن هذه المجموعات تحاول توليف الجزيئات البيولوجية وتجميعها في خلايا وظيفية.
في حين أن صنع البكتيريا المرآوية من الصفر ربما لا يزال على بعد عقد من الزمان، فإن هناك بالفعل مخاوف حقيقية بشأن الطريق الذي قد تقود إليه هذه الأبحاث. ويخشى العلماء الأربعون الذين يكتبون في مجلة ساينس أن تكون للحياة المرآوية، إذا ما هربت من المختبرات (وهناك الكثير من الأمثلة على حدوث ذلك)، عواقب مدمرة.
الواقع أن القلق الأكثر إلحاحا يتلخص في أن البكتيريا المرآوية قد تفلت من الأنظمة المناعية للإنسان والحيوان والنبات. وتعتمد دفاعاتنا المناعية على التعرف على الأنماط الجزيئية المحفوظة الموجودة في مسببات الأمراض الطبيعية (كائن حي أو عامل آخر ــ مثل الفيروس ــ يسبب المرض)، والتي تتكون جميعها من أحماض أمينية يسارية. وسوف تفتقر البكتيريا المرآوية إلى هذه الأنماط التي يمكن التعرف عليها، الأمر الذي يجعل أنظمتنا المناعية عمياء عن وجودها.
وقد تتسبب البكتيريا المرآوية أيضا في تعطيل النظم البيئية بطرق لا يمكن التنبؤ بها. على سبيل المثال، ربما تكون قادرة على التهرب من الضوابط البيولوجية مثل العدوى الفيروسية والمضادات الحيوية البكتيرية، ما يسمح لها بالتكاثر دون رادع.
وقد يؤدي هذا إلى ظهور مجموعات غازية من البكتيريا المرآوية التي تحل محل الأنواع الأصلية، وتعطل شبكات الغذاء وتغير دورات المغذيات، ما قد يؤدي إلى عواقب بيئية متتالية.
يستند تحذير العلماء بشأن الحياة المرآوية إلى تحليل فني دقيق يتألف من 300 صفحة.
قد تبدو رسالتهم الصارخة، التي تؤكد على المخاطر غير العادية للكائنات الحية المرآوية، وكأنها حبكة فيلم خيال علمي مثير، لكن المخاوف ترتكز على منطق علمي صالح.
تمثل البكتيريا المرآوية تحديًا فريدًا وغير مسبوق. ومع ذلك، فهذه ليست أزمة ستتكشف غدًا. تظل الحواجز التقنية أمام خلق حياة مرآوية كاملة كبيرة، ما يوفر للمجتمع العالمي الوقت الكافي للنظر في استجابته. ويعترف العلماء أيضًا أنه بخلاف البحث الذي يقوده الفضول، فإنهم يكافحون من أجل تصور أي مبرر مقنع لتطوير كائنات مرآوية كاملة.
من خلال العمل الآن – من خلال الحوكمة القوية والإشراف الدقيق والتعاون الدولي – يمكننا توجيه تطوير الجزيئات الحيوية المرآوية بشكل مسؤول، مع ضمان منع خلق حياة مرآوية كاملة – ما لم يتم فهم مخاطرها بشكل لا لبس فيه.
المصدر: The Conversation
اقرأ أيضا: