كتب – رامز يوسف:
تنتشر في بعض الأوساط الشعبية، نظرية غريبة مفادها أن القمر المكتمل (البدر)، قد يؤثر على البشر ويصيبهم بالأرق أو حتى الإقدام على ارتكاب سلوكيات غريبة.
المثير أن أحد مرادفات كلمة الجنون وهو “lunacy” مشتق مباشرةً من “luna”، وهي كلمة لاتينية تعني القمر.
فهل هذا صحيح؟
كثيرًا ما يُقسم ضباط الشرطة وموظفو المستشفيات وعمال الطوارئ أن لياليهم تصبح أكثر ازدحامًا تحت ضوء القمر المكتمل. لكن هل يُثبت العلم ذلك؟
تُظهر الأبحاث أن البدر يمكن أن يؤثر بشكل طفيف على النوم، لكن تأثيره على الصحة النفسية أقل تأكيدًا بكثير.
جوانا فونج-إيسارياونسي، أستاذة مُشاركة في علم الأعصاب، جامعة بيتسبرج، متخصصة في طب النوم، وتدرس كيفية تأثير النوم على صحة الدماغ، ترى أنه من المثير للاهتمام أن أسطورة قديمة عن ضوء القمر والجنون قد تعود إلى شيء أكثر شيوعًا: النوم المُضطرب تحت ضوء القمر.
تُظهر دراسات عديدة أن نوم الناس يختلف في الأيام التي تسبق البدر، عندما يكون ضوء القمر في أوج سطوعه في سماء المساء. خلال هذه الفترة، ينام الناس أقل بحوالي 20 دقيقة، ويستغرقون وقتًا أطول للنوم، ويقضون وقتًا أقل في نوم عميق.
تؤكد دراسات سكانية واسعة النطاق هذا النمط، إذ وجدت أن الناس من مختلف الثقافات يميلون إلى النوم متأخرًا لفترات أقصر في الليالي التي تسبق البدر.
السبب الأكثر ترجيحًا هو الضوء. يمكن للقمر الساطع في المساء أن يؤخر الساعة البيولوجية للجسم، ويقلل من إنتاج الميلاتونين – الهرمون الذي يُشير إلى وقت النوم – ويُبقي الدماغ أكثر يقظة.
ويفقد معظم الناس 15 إلى 30 دقيقة فقط من النوم، ولكن التأثير قابل للقياس. يكون هذا التأثير أقوى في الأماكن التي لا تحتوي على إضاءة صناعية، مثل المناطق الريفية أو أطراف المدن.
تشير أبحاث أيضًا إلى أن الرجال والنساء قد يتأثرون بشكل مختلف. على سبيل المثال، يبدو أن الرجال يفقدون المزيد من النوم خلال مرحلة ازدياد القمر، بينما تنعم النساء بنوم أقل عمقًا وراحةً مع اكتمال القمر.
علاقة القمر بالصحة النفسية
منذ قرون، يلقى الناس باللوم على اكتمال القمر في إثارة الجنون. تشير المعتقدات الشعبية إلى أن سطوعه قد يُثير الهوس لدى مرضى الاضطراب ثنائي القطب، أو يُسبب نوبات صرع لدى المصابين بالصرع، أو يُسبب الذهان لدى المصابين بالفصام.
كانت النظرية بسيطة: قلة النوم تحت ضوء القمر الساطع قد تُسبب تدهورًا في العقول.
يُضيف العلم الحديث بُعدًا مهمًا. تُشير الأبحاث بوضوح إلى أن قلة النوم بحد ذاتها مُسبب قوي لمشاكل الصحة النفسية. حتى ليلة واحدة مُرهقة يُمكن أن تزيد من القلق وتُسبب تدهورًا في المزاج. كما أن اضطراب النوم المُستمر يزيد من خطر الإصابة بالاكتئاب، والأفكار الانتحارية، وتفاقم حالات مثل الاضطراب ثنائي القطب والفصام.
هذا يعني أن حتى قلة النوم الطفيفة التي تُلاحظ مع اكتمال القمر قد تكون أكثر تأثيرًا على الأشخاص المُعرضين للخطر بالفعل. على سبيل المثال، قد يكون الشخص المصاب بالاضطراب ثنائي القطب أكثر حساسيةً لقصر النوم أو تقطعه من الشخص العادي.
ولكن الأمر ينطوي على مفاجأة.
عندما يدقق الباحثون وينظرون إلى مجموعات كبيرة من الناس، فإن الأدلة على أن مراحل القمر تُسبب أزمات نفسية ضعيفة. لم يُعثر على أي نمط موثوق بين القمر وحالات دخول المستشفى أو الخروج منها أو مدة الإقامة فيها.
لكن دراسات أخرى تشير إلى احتمال وجود تأثيرات طفيفة. في الهند، سجلت مستشفيات الأمراض النفسية زيادةً في استخدام القيود خلال اكتمال القمر، بناءً على بيانات جُمعت بين عامي 2016 و2017. وفي الصين، لاحظ الباحثون ارتفاعًا طفيفًا في حالات دخول مرضى الفصام إلى المستشفيات خلال اكتمال القمر، باستخدام سجلات المستشفيات من عام 2012 إلى عام 2017.
لكن هذه النتائج ليست متسقة عالميًا، وقد تعكس عوامل ثقافية أو ممارسات المستشفيات المحلية بقدر ما تعكس العوامل البيولوجية.
قد يُقلل القمر من وقت نومنا قليلًا، ومن المؤكد أن قلة النوم يمكن أن تؤثر على الصحة النفسية، وخاصةً لدى الأشخاص الأكثر عرضة للخطر.
يشمل ذلك المصابين بحالات مثل الاكتئاب، والاضطراب ثنائي القطب، والفصام، والصرع، والمراهقين الذين يعانون من حساسية شديدة لاضطرابات النوم. لكن فكرة أن البدر يُسبب موجات من الأمراض النفسية تظل خرافة أكثر منها حقيقة.
نظريات أخرى قاصرة. على مر السنين، استكشف العلماء تفسيرات أخرى للتأثيرات القمرية المزعومة، بدءًا من قوى الجذب “المدّية” الجاذبة على الجسم وصولًا إلى التغيرات الجيومغناطيسية الدقيقة وتحولات الضغط الجوي. ومع ذلك، لم تصمد أيٌّ من هذه الآليات أمام التدقيق.
قوى الجاذبية التي تُحرّك المحيطات أضعف بكثير من أن تؤثر على وظائف الأعضاء البشرية، وأسفرت دراسات التغيرات الجيومغناطيسية والغلاف الجوي خلال مراحل القمر عن نتائج متضاربة أو ضئيلة. وهذا يجعل اضطراب النوم الناتج عن التعرض للضوء ليلًا الرابط الأكثر ترجيحًا بين القمر والسلوك البشري.
إذن.. لماذا لا تزال هذه الأسطورة قائمة؟
إذا كان العلم غير قاطع إلى هذا الحد، فلماذا يؤمن الكثير من الناس بـ”تأثير البدر”؟ يشير علماء النفس إلى مفهوم يُسمى الارتباط الوهمي. فنحن نلاحظ ونتذكر الليالي غير العادية التي تتزامن مع البدر، لكننا ننسى الليالي العديدة التي لم يحدث فيها شيء.
كما أن القمر مرئي للغاية. بخلاف مُسببات اضطراب النوم الخفية، كالتوتر والكافيين أو تصفح الهاتف، فإن القمر حاضرٌ في السماء، ويسهل إلقاء اللوم عليه.
المصدر: The Conversation
اقرأ أيضا: